اخبار

سعيد رضواني عتبة اللقاء وعتبات القصة، الجزء الثاني من قراءتي في قصة “لقاء مع بورخيس” لسعيد رضواني.

سعيد رضواني عتبة اللقاء وعتبات القصة، الجزء الثاني من قراءتي في قصة “لقاء مع بورخيس” لسعيد رضواني.

بقلم الناقد عبد الرحيم التدلاوي.

 

لا ينبغي اعتبار القصة مجرد لقاء بين كاتب وقارئ، بل هي حوار خيالي عميق وبناء بين طرفين: الراوي والأديب الأرجنتيني الشهير “بورخيس”. يجتمعان في مكان غير واضح بجانب البحر، الذي يمثل خلفية للأحداث وفي الوقت نفسه رمزًا قويًا يفصل بين الحقيقة والخيال، بين الثقافة الشرقية والغربية، وبين الزمن الحالي والماضي. في هذا السياق، نشعر بتداخل الحقيقة (مثل رصيف البحر ومكان عرض الكتب) مع الخيال (بورخيس كرمز، وليس كشخص حقيقي).

 

 تأتي القصة مثل شبكة معقدة من الأفكار والكلمات: والأدب يصبح فيها مكانًا لتنافس الزمن والشخصية والثقافات المختلفة. حديث الراوي وبورخيس ليس تقليديًا، بل يشبه قصة روحانية، حيث تختلط كلماتهما وتزول الفواصل بينهما. حتى جملة بورخيس الشهيرة: “أتمنى لو كنت أنا هو أنت” تعكس فكرة التكامل بين الأضداد، وتظهر أن القصة مبنية على التناقضات التي تخلق معنى جديداً.

 

أما البحر في هذه القصة فيمثل معنى ثالثًا: ليس مرتبطًا بالشرق أو الغرب فقط، بل هو خليط منهما. وهذا يشبه الهوية التي تتكون من التفاعل بين الحضارات المختلفة. أيضًا، المكتبات (مثل مكتبة بغداد القديمة ومكتبة بابل الخيالية، التي اهتم بها بورخيس كثيرًا) ترمز إلى التنافس بين الماضي والمعلومات، لكن البحر يكون بينهما كجسر يوصل ولا يفصل.

 

من المهم أن نلاحظ أن الكاتب لا يقلد بورخيس، ولا يحاول ذلك، بل “يستضيف” أفكاره في نصه، وكأنه يقول له: “أنت الآن جزء من كتابتي، سأعيد صياغتك بأسلوبي” وهذا يعني ضمنيًا أن الكاتب يسعى للتحرر من تأثير بورخيس من خلال استيعاب أفكاره. هذه الصلة بين الكاتب والقارئ، أو بين الزمن الماضي والحاضر، توضح أن النصوص تبقى حية وتتغير مع كل قراءة جديدة وفهم مختلف.

 

 لم تظهر المرايا في هذه القصة للتعبير عن حب الذات، بل استخدمت كوسيلة لفهم الذات: الراوي لا يرى صورته في المرآة مباشرة، بل يرى انعكاسًا له في بورخيس، وفي الخيال، وفي ذكرياته. المرآة هنا تسبب شعورًا بالصعوبة، لأن تكوين الهوية يتطلب جهدًا وأحيانًا تنازلات. وحتى المتاهة ليست مجرد علامة، بل تعبر عن تردد الهوية العربية بين تاريخها العريق وواقعها الصعب، وعن دور المفكر الذي يسعى للحفاظ على الفهم من الضياع.

 

يبدو الزمن في القصة مثل الحلم لأن الأحداث لا تحدث بتسلسل واضح، بل تنتقل بين الماضي والحاضر، مما يعطي إحساسًا بأن الراوي وبورخيس يكتبان عن بعضهما، أو أن شيئًا جديدًا ينتج عن تفاعلهما واتحادهما هو من يروي القصة. حتى اللغة تشبه أمواج البحر: متكررة لكنها متجددة، تدفعك لإعادة القراءة لاكتشاف طبقات جديدة.

 

لا تقدم النهاية إجابات واضحة، بل تثير التفكير: الرسالة غير المفهومة من بورخيس، ورد الراوي الأكثر غموضًا، يجعلك تتساءل بحيرة: من هو المؤلف الحقيقي؟ ومن هو القارئ؟ القصة تدعوك لتكون جزءًا منها، كمرآة تعكس أفكارك، أو كصلة وصل بين وضعنا الحالي وما يمكن أن نكون عليه.

سعيد رضواني عتبة اللقاء وعتبات القصة، الجزء الثاني من قراءتي في قصة “لقاء مع بورخيس” لسعيد رضواني.

هذه القصة في المحصلة النهائية هي تجربة خصبة تشعر فيها بأنك داخل متاهة كما متاهة رضواني في روايته “أبراج من ورق”، وتستمع فيها إلى أصوات من الماضي والحاضر، وترى فيها ذكرياتك وتأملاتك. إنها دعوة لفهم العالم كحوار مستمر، حيث لا توجد حلول ثابتة، بل توجد أسئلة جديدة ومبتكرة تدفعك لتكوين فهم جديد في كل مرة تفكر فيها.

سعيد رضواني عتبة اللقاء وعتبات القصة، الجزء الثاني من قراءتي في قصة "لقاء مع بورخيس" لسعيد رضواني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى